الجامعة العربية المفتوحة .. ضرورة اجتماعية
يصعب علينا أن نتصور استمرار وطننا العربي على حاله الراهن من التخلف والتدهور في ظل غياب التنمية البشرية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التعليمية والعملية التكنولوجية ، بينما العالم يجري نحو بدايات القرن الحادي والعشرين بسرعة مذهلة راكباً قطار ثورتي العلم والتكنولوجيا الحديثة .
النهار والشرق الأوسط
25/11/1997م
بقلم : الأمير طلال بن عبدالعزيز
يصعب علينا أن نتصور استمرار وطننا العربي على حاله الراهن من التخلف والتدهور في ظل غياب التنمية البشرية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التعليمية والعملية التكنولوجية ، بينما العالم يجري نحو بدايات القرن الحادي والعشرين بسرعة مذهلة راكباً قطار ثورتي العلم والتكنولوجيا الحديثة .
ولم يكن العالم المتقدم قادراً على تحقيق ثورته المتطورة ، لولا إدراكه لعلوم المستقبل واندفاعه في طريق العلم الحديث وإنجازاته في مجال التكنولوجيا الدقيقة . لقد أمسك منذ البداية بأول الخيط وتركنا نحن أو تركنا أنفسنا عند آخر الخيط .
هكذا نلاحظ أن الغرب الأوروبي الأمريكي الياباني سريع التطور، قد ربط تقدمه وحدد مساره عبر ثورة العلم والتكنولوجيا وأعاد بناء الإنسان وتشكيل عقله وتأسيس فكره وإطلاق إبداعه، من خلال منظومة تعليمية علمية تربوية متكاملة تبدأ منذ التعليم الأولي للطفولة ولا تنتهي بالتعليم العالي ، وإنما التعليم والتدريب وإعادة التأهيل عملية مستمرة ومتواصلة ، عملية طريقها ليس الجامعات التقليدية بأساليبها ومناهجها النمطية فحسب ، وإنما مجالها وطريقها التعليم المفتوح ، الذي استفاد إلى أقصى درجة من إنجازات العلم التكنولوجي الحديث جنباً إلى جنب مع إنجازات ديمقراطية التعليم أو التعليم الديمقراطي .
وحتى حاضرنا الراهن ، ظل طلاب العلم ينتقلون إلى أماكن الجامعات، يتركون قراهم ومدنهم، عائلاتهم وأهليهم ، ليتدفقوا على مكان واحد يجتمعون في قاعاته وحرمه .. ابتداء من اليوم فصاعداً سيختلف الحال، إن لم يكن قد بدأ .
فبدلاً من أن ينتقل الطلاب إلى الجامعات، فإن الجامعات ستنقل إلى الطلاب، حيث يعيشون ويعملون ، بفضل ثورة العلم والتكنولوجيا، التي أفرزت ضمن ما أفرزت ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال ، التي غيرت كثيراً ليس فقط في مفاهيم الإعلام والصحافة وتبادل الأخبار والمعلومات ، ولكن غيرت أيضاً من أساليب التعليم والثقافة وتفاعل الخبرات عبر الحضارات المختلفة ، وصولاً لإحداث ما يشبه الانقلاب في أنماط السلوك والتفكير والتقاليد ومجمل الحياة الاجتماعية للبشر في هذا العصر.
ونؤمن أن الجامعات المفتوحة، التي تقفز فوق أساليب الجامعات التقليدية، شكلاً ومضموناً، هي الأكثر استفادة والأعمق استغلالاً لمنجزات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال هذه ، التي بواسطتها ينتقل العلم والتعليم الجامعي إلى طالبيه وممارسيه، حيث هم ، دون الحاجة إلى الأساليب التقليدية القديمة ، تعبيراً عن ضرورات اجتماعية جديدة فرضتها أنماط الحياة المعاصرة وأشكال نموها وتطورها ، وآفاق تقدمها التي تدخل بها القرن الحادي والعشرين بعد نحو ألف يوم من الآن . وحين نمعن النظر ونمارس التأمل في أحوال مجتمعاتنا العربية، ندرك على الفور أننا أمام معادلة صعبة ، مجتمعات لا تزال متخلفة تعاني من نسب عالية للأمية الأبجدية والثقافية. ترتفع في بعض البلاد العربية إلى أكثر من 80% . لكنها تتطلع إلى التقدم وتتوسع في التعليم. أحياناً بطريقة عشوائية، فلا تحقق النتاج المرجوة .
مجتمعات فتية، ورثت حكمة بالغة قوامها: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، أي التعليم المستمر، واطلبوا العلم ولو في الصين، أي التعليم في أي مكان مهما بعد، لكنها تمارس حتى اليوم تعليماً تقليدياً تخلف في مناهجه وأساليبه عن التقدم العالمي العلمي المذهل، فإذا بها لا تنتفع بالعلم ولا تنصلح أحوالها بالتعليم .
ولا شك أن هناك عوامل كثيرة بعضها نابع منا وبعضها الآخر قادم إلينا مفروض علينا، عوضت مسيرة العلم والتعليم في الوطن العربي، رغم التوسع الهائل في هذه المسيرة منذ خمسينات هذا القرن وفي ظل الاستقلال الوطني، الذي شهدت سنواته طفرة ملحوظة في التعليم بمراحله المختلفة وصولاً للتعليم الجامعي، غير أن نظرة فاحصة نلقيها على ما تم حتى الآن، تكشف لنا أن كل هذا التوسع لم يستوعب الضرورات التعليمية والاجتماعية ، طالما ظل محاصراً بأساليب العمل التقليدية خصوصاً في مراحل التعليم العالي والجامعي .
ولذلك نؤمن أن الأمر يتطلب منا إحداث تعليم جامعي غير تقليدي، قوامه الجامعة المفتوحة التي تعتمد عل أحدث منجزات ثورة العلم والتكنولوجيا وتذهب بمناهجها ودروسها وأساتذتها إلى الطلاب حيث هم، ودون أن تعطلهم عن أداء أعمالهم اليومية، ودون أن تتطلب منهم التفرغ الكامل كما هو حادث الآن في التعليم التقليدي، وذلك باستغلال الإمكانات الهائلة للاتصال والتواصل عبر شبكات البث التلفزيوني ونقل المعلومات والدروس والخبرات.
والذي يدفعنا إلى تبني فكرة الجامعة العربية المفتوحة والعمل على تنفيذها وإخراجها إلى مجال التطبيق العملي، هو ما يواجهه التعليم العالي في البلاد العربية من تحديات جمة .
فنظراً للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية، فإن المرحلة المقبلة يجب أن تشهد وضوحاً في النظرة المستقبلية للتعليم العالي وبشكل ينسجم مع حجم السكان واحتياجاته الفعلية لكي ينتقل المجتمع العربي من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج ، ومن مرحلة التبعية إلى مرحلة القيادة، ومن مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة، ويستلزم ذلك وضع خريطة متكاملة لواقع التعليم العالي ومستقبله تحتوي على تحسين مناهجه وتطوير نوعيته في مؤسساتها لتحقيق نتائج تساعد على تلبية متطلبات التنمية في الوطن العربي، ولتحقيق لك فإن مؤشرات تطوير التعليم العالي في المرحلة المقبلة تعتمد على عدة أسس منها ما يلي :
1) الاتجاه العالمي إلى عولمة التعليم كما هو الحال في عولمة التجارة والاقتصاد ، فالمؤسسات الأجنبية ترحب بالالتحاق بها من خلال التعليم المباشر أو من خلال التعليم عن بعد بواسطة الإنترنت، فهذه المؤسسات تعمل على دراسة الاحتياجات للمجتمعات العربية في الوقت الذي تنغمس فيه مؤسسات التعليم العالي العربي في محاولات حل مشكلاتها وتسيير أعمالها اليومية. وبرغم أن بعضا مؤسسات التعليم العالي العربي تمتلك القوة في الاعتراف من عدمه بالشهادات الأجنبية، إلا أنه سيأتي اليوم الذي سيفقد فيه هذه القوة بعد أن يتلفت النظام العالمي الجديد إلى التعليم وعولمته حينما ينتهي من عولمة التجارة والصناعية التي تعتمد على المعايير والأسس التي يراها مناسبة للتطبيق. فإذا لم تتحرك المؤسسات التعليمية في العالم العربي لتطوير نظمها التعليمية فإنها من المحتمل أن تفقد أهميتها وتحل محلها المؤسسات العالمية.
2) يوجد ضعف في الكفاءة الداخلية في معظم الجامعات العربية المتمثلة في ارتفاع نسبة الرسوب والتسرب ..الخ، كما أن الكفاءة الخارجية للتعليم العالي لا تقل ضعفاً عن الكفاءة الداخلية، التي تتمثل في وجود الفجوة بين التعليم ومتطلبات سوق العمل وحاجة المجتمع مما يستدعي تصحيح هذا الوضع وإيجاد البدائل لتخفيف الضغط المتزايد من قبل الطلب الاجتماعي على التعليم العالي لكي يقوم بدوره على الوجه المطلوب .
3) وجود تزايد سكاني في الوطن العربي حيث يقدر عدد السكان الآن بحوالي 250 مليون نسمة ، ومن المتوقع أن يرتفع ليصل إلى 290 مليوناً عام 2000 إذا استمر معدل النمو السكاني على حاله. وارتفاع عدد السكان في الفئة العمرية المدرسية (6-23) من 5 ملايين عام 1971إلى 79 مليوناً عام 1985، ومن المتوقع أن يبلغ 117مليوناً عام 2000، و 174 مليوناً عام 2025، ومع هذا التوسع السكاني وخصوصاً في الفئة العمرية المدرسية ، فإن ستة ملايين شاب وشابة ستمتعون بالتعليم الجامعي عام 2000، بينما يحرم منه حوالي 25 مليون شاب في السن التعليم .
ومع ما يعانيه التعليم العالي – في الوقت الحاضر – من مشكلة استيعاب الراغبين في الدراسة ، فإن هذه المشكلة سوف تتضاعف وتشكل خطراً على مستقبل التعليم في الوطن العربي ، مما يحتم وجود أنماط أخرى من التعليم تتلاءم مع إتاحة الفرصة للتعليم والاستفادة من التقنيات الحديثة .
4) تزايد الإنفاق على التعليم بسب ازدياد عدد الطلبة والتطورات التقنية التي يحتاجها التعليم، وارتفاع أسعار بعض المواد والأجهزة التي تحتاجها الجامعات. وبالرغم من أن نسبة الإنفاق على التعليم إلى الناتج القومي الإجمالي في الدول العربية حوالي 5,5% كما في العام 1991، وعلى الرغم من أن هذه النسبة تضاهي مثيلاتها في بعض الدول المتقدمة ، إلا أنه يلاحظ أن الإنفاق يتمثل في نفقات جارية، إذا تصل نسبة الإنفاق الجاري في غالبية الدول العربية من مجموع الإنفاق على التعليم إلى ( 90% ) . كما يتوقع أن يزيد الإنفاق على التعليم العالي من 307 ملايين دولار سنة 1970 إلى 5203 ملايين دولار عام 2000
ومن الملاحظ أن الإنفاق على العملية التعليمية وتطويرها قليل بالمقارنة إلى ما يصرف على النفقات الجارية، مما يستدعي النظر في ترشيد الإنفاق على التعليم دون الإخلال بما يصرف على العملية التعليمية وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية.
5) يحتاج سوق العمل وبعض المؤسسات الحكومية إلى تخصصات محددة لا تتوفر في خريجي التعليم العالي بسبب عدم وجود ربط بين التعليم واحتياجات التنمية في المجتمع مما يضطر مؤسسات القطاع الخاص إلى الاستعانة بالخبرات الأجنبية في بعض التخصصات التي لا تتوفر في بعض الجامعات العربية .
6) سهولة متابعة التطورات العلمية والتعليمية والتقنية ، عبر وسائل الاتصال الحديثة، مع تطور مناهج التدريس ومفاهيمه ، اعتماداً على الحوار والمناقشة وتبادل الآراء والاجتهادات والخبرات بدلاً من أساليب الحفظ والتلقين والنقل الميكانيكي على نحو ما نلاحظه في معظم الجامعات العربية. قد ساعد على تهيئة المناخ العلمي للإبداع والابتكار والتقدم التعليمي في جامعات العالم المتقدم، بينما جامعاتنا العربية لا تزال أسيرة التعليم النمطي بمناهجه القديمة وأساليبه المتخلفة وبيروقراطيته الوظيفية ، الحاكمة للأساتذة في تدريسهم للطلاب ، والمتحكمة في الطلاب الراغبين في الحصول على الشهادة الجامعية ، عنوانا للوجاهة الاجتماعية أو طلباً للارتقاء الوظيفي وتحسين المستوى المعيشي وهروباً من الفقر والبطالة.
والخلاصة أن أمام تقدم التعليم الجامعي العربي ، تحديات عديدة ، أبرزها ضيق فرص التعليم العالي خصوصاً أمام الفئات المحرومة منه مثل سكان الريف والنساء والفقراء بصفة عامة والعجز الواضح في إمكانات الجامعات الحالية ، وبالتحديد في الأساتذة التخصصين ، وانخفاض نوعية التعليم وتخلف مناهجه عن ملاحقة ثورة العلم فضلاً عن الانفصال القائم بين متطلبات المجتمع واحتياجاته من ناحية ، وبين نوعية خريجي الجامعات وتخصصاتهم من ناحية أخرى.
ولا نحسب أن ترك الأمور على أحوالها هذه من التردي، يساعد بأي حال من الأحوال على تطوير التعليم الجامعي، أو على تنمية المجتمع والاستفادة من التعليم كقوة مؤثرة في التغيير الثقافي والاجتماعي في الوطن العربي.
ولذلك نعتقد بقوة أن اللجوء إلى فكرة الجامعة العربية المفتوحة، يمثل أحد أهم البدائل المطروحة حالياً للتطوير والتقدم باعتبار هذه الجامعة - التي تختلف حتماً عن الجامعة التقليدية القائمة - ضرورة اجتماعية وتعليمية ملحة في الوطن العربي.
التعليــــقات